Wednesday, November 5, 2008

الدويقة.. أيام العجب والموت


المقال منشور بمجلة كلمتنا عدد نوفمبر الحالي بعنوان



الدويقة أهلا بك في الجحيم


علاقتي بالدويقة بدأت في الصف الثالث الإعدادي.. صبي صغير قرر القدر له أن يتعرف على الدويقة شخصيا بعد أن كان فقط يسمع عنها من زملاءه الساكنين فيها.. عايز أروح الدويقة.. أعمل إيه؟.. تاخد أي حاجة لحد مزلقان الدويقة ومن قدام حي منشأة ناصر هتركب عربية طالعة "الوحايد" ومن الوحايد تاخد عربية تانية "للمساكن".. عبرت شريط القطار الممتد أمام المزلقان ودلفت إلى علبة السردين منتهية الصلاحية التي سموها لأجل جبر الخاطر " ميكروباص ".. جلست على الكنبة الأخيرة واخترق فخذي مسمار صلب عتيد " ابتدينا ".. وجوه الرجال في علبة السردين كلها مكفهرة، حواجب مقتضبة وعيون متحفزة للشر.. الشر فقط.. نساء لا يطيقون عباءاتهم السوداء، منهن من تحمل صغيرها على كتفها أو تجلسه على قدميها توفيرا للأجرة، ومنهن من تفرغت لسب الدين للسائق العربة عشان يهمد ويمشي بلا استعجال، الكل ينظر إلي بترقب شديد – واضح إني غريب عن المنطقة – برغم أن الدويقة منطقة عامرة بالسكان إلا أن سكانها لهم نفس الهيئة والغريب بينهم لا يحتاج إلى قوة ملاحظة لكشفه، وصلت إلى منطقة "الوحايد" بعد أن عبرت على مصنع الرنجة التي تخترق رائحته كل حواسك وتلال القمامة والعفن التي تجبرك على الغثيان، وهناك بحثت عن علبة سردين أخرى تقلني إلى المساكن، لم أكن أتوقع أن أرى نوعا جديدا من المواصلات لم أره قط في حياتي إلا في الدويقة!!.. فاكرين عربات الجيش الإنجليزي أيام الإحتلال؟.. تلك السيارات الجيب القديمة كاكية اللون والتي يرتدي قائدها بدلة جيش كاكي وباريه أخضر.. رأيناها كثيرا في مسلسلات عصر الطرابيش.. هي نفسها تلك السيارة.. فقط تحول لونها من الكاكي إلى لون الصدأ وارتدى قائدها الذي لم يتجاوز عمره أبدا الرابعة عشر قميصا عليه صورة إيهاب توفيق واستبدل الباريه الأخضر بقصة شعر " انجليزي و "جلات " ولزوم النزاهة قام صاحب العربة باستبدال عجلة الدريكسيون الأصلية بعجلة مرسيدس وكاسيت يئن من صوت عبد الباسط حمودة وهو يغني " بوسي كات ".. تلك السيارة كانت مغامرة لطيفة لصبي في سني فهي تجري بك كما تجري عربات التصادم في ملاهي سندباد – أريد أن أضحك وخايف يقولوا عليا عبيط – وصلت المساكن ونزلت محطة السنترال وقررت أن أتجول في المساكن على قدمي.. لا ترى سوى ورش وسيارات تتجدد ولا تسمع سوى أصوات دقدقة شواكيش السمكرية على صاج السيارات، عمال وأسطوات يكسوا ملابسهم وجلودهم الشحم ومدرسة يخرج تلاميذها لتغيير ملابسهم واستبدال أسمائهم باسم " بلية "، أم تسحب أطفالها الثلاثة الممسكين بطرف جلبابها لتدخل الورش والمحال طالبة حسنة لله- وصلت إلى حافة الجبل التي تسمى بلغة أهل المقطم كورنيش ورأيت بيوتا لأول مرة أراها بحياتي، بيوت تدفن نصفها السفلي في صخر الجبل الجيري وتحتاج لكي تدخل من بابها أن تثني قامتك كثيرا، وبيوت تفوق في ميلها برج بيزا الشهير وأخرى لم يقو صاحبها على دهانها فظلت عارية تظهر عورتها للناظرين، أغلب تلك البيوت يعتلي " الدش " سطوحها – هم الناس دول أغنياء ولا فقراء.. ده إحنا معندناش دش في بيتنا!!- وكأي صبي في سني قررت الجلوس على القهوة التي كنت قد بدأت في التعرف على ميزات الجلوس إليها في هذا السن – جلست وطلبت واحد بيبس – وبجواري يجلس شابين يتحدثان بحدة شديدة:
- يعني هو يجي لك لحد القهوة تقوم تعلمه في وشه؟
- أومال عايزني أخده على حجري.. ده ماشي مع أختي بقاله سنة ولما تيجي سيرة الجواز يقول لها حين ميسرة
- يابني طب واستفدت إيه لما عورته.. ده بدل ما تاخده على حجرك وتقول له ينجز في الموضوع؟
- يا عم أنا اتخنقت احنا كوم لحم في أوضة وصالة وحمام مشترك.. عايزينها تغور بقى؟
- يا بني خليها على الله.. ما هو ظروفه زي ظروفك وظروفنا.. يبنوا لهم أربع حيطان وسقف فوق منكم ويتلموا وخلاص.

- طب والبناء ده مش محتاج مصاريف، وهو وأنا وأنت ظروفنا منيلة، ده أنا مدخلش جيبي جنيه بقالي شهر- العيال ولاد أختي ناموا إمبارح من غير عشاء.

- لا حكومة حاسة بينا ولا الناس بتوع مارينا شايفينا ولا حتى الكيف عارف يلهينا.. يا رب هو أنت خلقتنا عشان تمرمطنا.. ده الواحد بيطلع عين أهله عشان يجيب الجنيه.

إيه ده.. معقول فيه ناس عايشة كده؟.. هم دول عايشين أصلا.. إزاي الناس دي لسه بتتنفس لحد دلوقتي.. يا ترى لما أكبر وأوصل لسنهم ده هيكون إيه اللي بيحصل؟.. دول بيقولوا إن الحكومة مش حاسة بينا.. أومال ليه الريس بيجيب 99% في الاستفتاء وليه المطربين كلهم اتجمعوا وغنوا له " اختارناك " وليه مجلس الشعب كل يوم في التليفزيون ألاقي ناس بتتكلم فيه عن حق الفقراء ومحدودي الدخل.. أنا كنت فاكر إن محدودي الدخل دول هما أفقر فئة في المجتمع.. أول مرة أعرف إن فيه فئة كبيرة أوي اسمها معدومي الدخل.

وفاتت السنين وبعد 10 سنين وفعلا تغير المشهد.. بقى عندنا دش في بيتنا وفتحت التليفزيون ولقيت الدويقة بتنهار.. جثث وبيوت تحت الأنقاض.. فرق الإنقاذ تتعامل بعشوائية.. الصراخ ولطم الخدود في كل مكان، الأمن المركزي يحاصر المنطقة.. الناس المهمين ذوي الحلل والأحذية الإيطالية والسيارات المرسيدس السوداء موجودون جميعا.. يتعاملون بعجرفة معتادة ولا تخل وجوههم من الشعور بالمصيبة – مصيبة احتمالية فقد مراكزهم والإعلام اللي مش هيسيبهم في حالهم- الكاميرات في كل مكان وسيارات الإسعاف تتحفز لاستقبال الضحايا، مئات الجثث وآلاف الدمعات وأصوات متداخلة، هرج ومرج وبكاء وعويل، أنقاض ترفع بعشوائية وأشلاء جثث تجمع في أكياس سوداء.. الإعلام يتسائل من وراء ما حدث؟ من سمح لهؤلاء بتوصيل المرافق وكيف تصرف مياههم في قلب الجبل الجيري.. كم عدد الضحايا وما حجم الخسائر؟.. المسئولون يجيبون باقتضاب ويحاولون إيهام الناس بأن الموقف تحت السيطرة، وبعيني لم أرى أي سيطرة.. الرئيس يأمر بتوفير 2000 شقة مجانية لأصحاب البيوت المنهارة.. كان فين من الأول الكلام ده يا ريس؟.. هو إحنا لازم نستنى المصيبة عشان نتحرك، ويا ترى يا حكومة هتحاسبي الوزير السابق اللي وصل لهم المرافق رغم علمه بكارثية السكن في هذه المنطقة فقط لضمان أصواتهم الإنتخابية للفوز بمقعد في مجلس الشعب؟.

وليه أصلا لما الحكومة فكرت تنقل الورش الصناعية من وسط البلد قامت بنقلها لجبل الدويقة وهم أكيد عارفين إنه معرض للانهيار في أي وقت؟.. أهم دلوقتي بيقولوا هيوفروا مكان تاني للورش دي!!

وإزاي يا حكومة تحاسبي المجرمين من سكان الدويقة ومنشية ناصر والمناطق المشابهة على أفعالهم وأنتم من أجبرتموهم على الفقر والمعيشة الضنك؟.. متعرفوش إن الفقر بيولد كل الرذائل.. الحاجة أجبرت الكثيرين من أهل العشوائيات على ممارسة مهن غير أخلاقية.. دعارة وبلطجة ومخدرات وكل شيء غير مباح، فقط من أجل البحث عن الحق الأدنى في الحياة ويا ليتهم فلحوا، ويا ليت الحكومة تركتهم في حالهم.. عجبي.





14 comments:

Anonymous said...

ما شاء الله مقال رائع .. استفدت منه كتير
اثر فيا كتير يا صبري ..
اشكرك على احاسيسك الجميلة
كريم

Anonymous said...

مقال رائع عن العشوائية
و صبري جوه حاجات حلوة كتير


جميل يا صبري

عاوزك تكتب بقي مقال رومانسي

تهامي

The Seagull said...

رائع يا صبري بجد .. عبرت عن موضوعك وفكرتك بأسلوب خلطت بيه بين الماضي والحاضر ..استمتعت جدًا بقراءة مقالك بجد ووصفك الرائع لمعاناة الفئة دي من الشعب :)

ربنـا يتولاهم برحمته ويتولانا وتنقشع السحابة السودة دي عن بلادنـا :)

dr.lecter said...

بغض النظر عن مقالك المؤلم لكن اللي بيفقعني بجد ان ناس معروفه تقعد تكتب عن الناس دي يومين ويعملوا لهم شو كده في الاعلام والبرامج اياها ويثيروا الراي العام وبعدها بتفتره الكل ينسي شوف انت الكارثه بقالها اد ايه؟.

شهر كامل وماحدش بقي يتكلم في الموضوع ده خالص ولولا مقالتك بجد ماكنت افتكرت اللي حصل

dr.lecter said...

بغض النظر عن مقالك المؤلم لكن اللي بيفقعني بجد ان ناس معروفه تقعد تكتب عن الناس دي يومين ويعملوا لهم شو كده في الاعلام والبرامج اياها ويثيروا الراي العام وبعدها بتفتره الكل ينسي شوف انت الكارثه بقالها اد ايه؟.

شهر كامل وماحدش بقي يتكلم في الموضوع ده خالص ولولا مقالتك بجد ماكنت افتكرت اللي حصل

Superman said...

هايل اوى الكلام ده

من احلي الحاجات اللي انت كتبتها ان ماكانتش احلي حاجة بالفعل يا صبري

اسلوبك في سرد التفاصيل و احساسك وسط المغامرة كان هايل

neihad elewa said...

صبرى انا نهاد
تعرف انى مكنتش شايفاك كده خالص بس بعد ما فاريتك كلك عرفتك وعرفت انك بجد قادر تحس وتكون :)

neihad elewa said...

صبرى انا نهاد
تعرف انى مكنتش شايفاك كده خالص بس بعد ما فاريتك كلك عرفتك وعرفت انك بجد قادر تحس وتكون :)

صبري سراج said...

نهاد.. متشكر اوي ربنا يكرمك بجد

حقيقي مبسوط بكلامك

صبري سراج said...

كريم الشاذلي

بجد كلامك كتير عليا

ربنا يكرمك

صبري سراج said...

تهامي

مش عارف ايه اللي خلاها تطلب معاك رومانسية وانت بتقرأ موضوع عن الدويقةloooool

صبري سراج said...

the seagyll

متشكر جدا.. ويا رب دايما يعجبك شغلي

صبري سراج said...

دكتور

انا سعيد اني ألمتك

Looool

صبري سراج said...

سولتو

سعيد برأيك سعادة الفيل